السيادة الاقتصادية- السعودية بين القانون الدولي وحماية المصالح الوطنية

المؤلف: فراس طرابلسي09.25.2025
السيادة الاقتصادية- السعودية بين القانون الدولي وحماية المصالح الوطنية

في خضم مشهد دولي متشابك، حيث تتلاقى دهاليز السياسة بأروقة القانون، وتتعارض مقتضيات الداخل مع الالتزامات الخارجية، تعود السيادة الاقتصادية لتتبوأ مكانة مرموقة، ليس باعتبارها مجرد مفهوم قانوني عتيق، بل كخيار سياسي واستراتيجي تسعى الدول من خلاله إلى بسط نفوذها في توجيه مصالحها. وقد تجسد هذا المنحى بجلاء في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، الذي أقدم على فرض رسوم جمركية على واردات دول عديدة، في إجراء اعتبره الكثيرون تحدياً سافراً لمنظمة التجارة العالمية، بينما رآه آخرون ممارسة مشروعة لحق الدولة في الذود عن مصالحها الاقتصادية.

من زاوية القانون التجاري الدولي، تُعد هذه التدابير مثار جدل واسع، إلا أنها لا تنأى كلياً عن نطاق الشرعية القانونية طالما أنها تتخذ ضمن آليات قانونية معترف بها ومعلنة. بل إن العديد من الاتفاقيات التجارية الدولية، بما في ذلك اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، تمنح الدول هامشاً معقولاً من المناورة في حالات الاختلال الظاهر في الموازين التجارية أو عند وجود ممارسات تعتبر غير منصفة. وهذا ما استند إليه الخطاب الأمريكي في تسويغ هذه الإجراءات المثيرة للجدل.

بيد أن لب القضية لا يقتصر على مشروعية الإجراءات المتخذة، بل في تبدل النظرة إلى مفهوم "الاقتصاد السيادي" كأحد أركان صون الأمن القومي، وهو ما نشهده اليوم في دول عديدة، سواء كانت شرقية أم غربية. والمفارقة العجيبة أن العالم الذي طالما بشر بالعولمة والانفتاح المطلق، هو نفسه من يعيد اليوم تعريف التوجه نحو الداخل بشكل مؤقت كسياسة حصيفة لا مناص منها في ظل الأزمات العالمية المتلاحقة.

وفي هذا الصدد، تبرز المملكة العربية السعودية كلاعب متزن في معادلة مضطربة، تجمع بين التمسك بالمعايير الدولية من جهة، والقدرة الفائقة على الذود عن مصالحها وفق منطق السيادة الرشيدة من جهة أخرى. فالمملكة لم تتخذ موقف الرفض المطلق للإجراءات الأمريكية، بل استقرأت المتغيرات بتأنٍ وروية، وآثرت أن تتعامل معها بمنهج تفاوضي يرتكز على المصالح المتبادلة لا على التحالفات الجامدة.

تكمن قوة المملكة العربية السعودية في هذا المشهد المعقد في قدرتها على التوفيق بين ثلاثة عناصر جوهرية: التناغم مع النظام التجاري الدولي، وحماية السوق المحلية، والانفتاح على شراكات جديدة ومتنوعة. لم تكن المملكة يوماً دولة تنتهج سياسة الحماية التجارية، لكنها في الوقت ذاته لم تفرط في قرارها الاقتصادي بالكامل لأي طرف خارجي. هذا التوازن الدقيق هو ما يجعل التجربة السعودية في التعامل مع المستجدات التجارية نموذجاً يحتذى به، لا سيما أنها مدعومة برؤية اقتصادية جلية، واستراتيجية قانونية عصرية تعزز من مكانتها التفاوضية في مختلف المحافل الدولية.

من الناحية القانونية المحضة، تمتلك المملكة العربية السعودية اليوم أدوات فاعلة تمكنها من التعامل بمرونة وكفاءة مع أي تحولات تجارية دولية. فالنظام التجاري المحلي شهد تطوراً ملحوظاً، وأصبح يتكامل مع منظومة تشريعية جديدة تراعي الاتفاقيات الدولية دون المساس بالخصوصية الوطنية. كما أن الأجهزة الحكومية المعنية، كمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، ووزارة التجارة، والهيئة العامة للتجارة الخارجية، باتت تعتمد مقاربات قانونية واستراتيجية متطورة في الذود عن مصالح المملكة، سواء في المحافل الثنائية أو متعددة الأطراف.

المملكة العربية السعودية ليست مجرد مستهلك للقواعد والقوانين، بل أصبحت ركناً أساسياً في صياغتها وتشكيلها من خلال عضويتها الفاعلة في منظمة التجارة العالمية، ومشاركتها البناءة في صياغة أجندات إصلاح هذه المنظمة بما يضمن عدالة التبادل التجاري ومراعاة أوضاع الدول النامية. وهذا في حد ذاته تطور بالغ الأهمية يعكس انتقال المملكة من خانة المتلقي إلى موقع المؤثر والفاعل، مستندة إلى قاعدة قانونية راسخة وفكر سيادي متزن ورشيد.

في الختام، فإن ما تقوم به الولايات المتحدة بقيادة ترمب ليس بالضرورة خروجاً عن القانون الدولي، بل هو إعادة استخدام وتوظيف له ضمن رؤية وطنية محددة، وهو أمر يجب أن نتعامل معه بوعي كامل لا بردود فعل انفعالية. فالسيادة الاقتصادية لم تعد مجرد شعار براق، بل أداة فاعلة تستخدم في رسم سياسات الدول وتحديد خياراتها الاستراتيجية. والمملكة العربية السعودية اليوم، بما تمتلكه من رؤية قانونية ناضجة وسياسات اقتصادية متوازنة، قادرة على حماية مصالحها دون الدخول في صراعات، والتكيف مع التحولات الدولية المتسارعة دون الانزواء والانكفاء.

وإذا كان ثمة درس يجب استخلاصه من المشهد الراهن، فهو أن القانون لا يفرض احترامه بمجرد وجود القواعد والنصوص، بل بالقدرة والكفاءة على تفسيرها وتوظيفها لخدمة المصالح الوطنية العليا. وهذه هي المعادلة التي أتقنتها المملكة العربية السعودية، وستظل تتقنها بلا شك، ما دامت السيادة عندها ليست مجرد رد فعل عاطفي، بل قرار قائم على وعي قانوني وطني ودولي متكامل ومتضافر في آن واحد.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة